رزقني الله منذ ثلاثة أشهر بمولود جديد، يتزامن مع ذلك الفرح الشديد، حالة من الخوف تصل أحيانا إلى الرعب من المستقبل الذي يشبه النفق المظلم حول ماهية النجاح وكيفية أن أصبح شابًا مفيدًا للمجتمع.
بدأت مرحلة الخوف عندما سألتني إحدى الفتيات ذاتا الـ14 عامًا، ماذا تعمل قولت لها صحفي قالت لي أنا أتابع مذيعة على تطبيق “التيك توك”، طلبت منها أن تريني تلك المذيعة، وجدت ما تطلق على نفسها المذيعة تجرى لقاءات مع المواطنين بالشارع، ولكن من المحزن تلك الفتاة كل المحتوى الذي تقدمه هو عبارة عن أسئلة تحمل إيحاءات جنسية وقبل كل سؤال تقول بابتسامة “صفى النية”، طوال فيديوهاتها تصف تلك الفتاة نفسها المذيعة، وانا أبحث بين كل هذه الفيديوهات عن الحياء لم أجده للأسف، وعن المحتوى الذي تقدمه كمذيعه، أيضا لم أجده.
حاولت اقناع الفتاة الصغيرة بأن هذا لا يمت للإعلام بصلة تمامًا، ولكن كل ما يسيطر على الفتاة الصغيرة، هي أن البنت التي تقدم الفيديوهات تحقق مشاهدات بالآلاف وتصل لأكثر من مليون احيانًا، إذن هي ناجحة، فدفعنا ذلك للانتقال لحوار اخر عنوانه ما هو النجاح وما هي المبادئ، فالسؤال هنا إذا كنت نجحت هنا في اقناع طفلة واحدة فكيف اقنع باقي الآلاف؟!!.
لم يتوقف الأمر عن تقديم محتوى مبتذل يضر الأطفال، بل قابلت أحد الشباب طلب من أن أقنع والده أنا يكمل مسيرته بالاستثمار في البورصة، على خلفيه أني صحفيًا بالاقتصاد، فستكون لدى المقدرة على ذلك.
بدأت حديثي مع الشاب قائلًا له حدثني عن استثمارك في البورصة وفي أي شركة اشتريت أسهم، قال لي أنا قمت بتنزيل تطبيق على هاتفي، هو عبارة عن مؤشر إذا كان توقعي صحيحًا لمسار المؤشر أحقق أرباحًا وإذا كان خطئًا يكون مصيري الخسارة، وقد ربحت منها أكثر من 20ألفا في الثلاثة أشهر الأخيرة، قولت له هذه ليست بورصة بل مراهنات وجميع تلك التطبيقات هي لسرقة الأموال عندما تقع في فخ الثقة بهم، وأقنعته هو أن يستثمر استثمار حقيقي وليس والده، ولكن هذه حالة واحدة، ماذا عن باقي الشباب الذين اقتنعوا بأن تلك التطبيقات هي استثمار بالبورصة.
ولكن ما زاد الطين بلة بالنسبة لي، عندنا سألت طالبًا في آخر سنة له بالثانوية العامة، ماهو طموحك، انتظرت إجابة أنا أريد أكون عالمًا، طبيبًا، مهندسًا، محاميًا، محاسبًا، مدير شركة، أعمل في مجال التكنولوجيا، … إلخ، لكنه قال لي أريد أن أكون ” جيمير” موضحًا أنه يريد أن يفتح بث مباشر وهو يلعب “ببجي”.
قولت له وقتها وهل هذا أصبح طموحًا في هذا الزمن؟ ، فتح لي على هاتفه شخص يدعى “تربون” وهو يحصل على مبالغ أو ما يسمونه “دعم” خلال وقت بث مباشر واحد يتخطى الـ 2000 دولار.
وتابع الشاب” تخيل بقى لو لعبت اللعبة اللي بحبها وجمعت لي في الشهر حوالي من1000 إلى 5 الآف دولار في شهر بعد حوالي سنة انتظام على البث المباشر، وقتها لن أكون في حاجة للعمل التقليدي، وكأنها صاعقة جديدة أصابتني فماذا اقول له؟!.
أخيرا وليس أخرًا بطبيعة عملي كصحفي متخصصة بالقطاع المصرفي، عندما كنت أتحدث لمدير فرع بأحد البنوك العاملة في مصر قال لي إن إحدى “البلوجر المشهورات” تسحب أموالًا من مصرفه تتخطى الـ80 ألف جنيه شهريًا، وعندما دخلت على صفحتها الرسمية على تطبيق “التيك توك”، كل تقدمه أو تسميه هي محتوى، وهو عبارة عن ارتداء الملابس أمام الكاميرا، صدمت لأنها ملابس غير لائق أن تتخطى بها حدود غرفتها.
لم تتوقف صدمتي عند هذا الحد، بل أن مدير الفرع أكمل لي حديثه، قائلًا إن الموظفات في الفرع اتجهن بعد رؤية تلك الأموال التي تسحبها تلك “البلوجر”، إلى تقديم هن الأخريات فيديوهات على نفس التطبيق.
في النهاية ماذكرته هذه بعض أمثلة رأيتها بأم عيني، فهذا ليس تعميمًا، لكن أيضا ما خفي كان أعظم، تخيل لو أصبح ذلك وظيفة أغلب الشباب وأصبحوا بلا مهارات داخل المجتمع، فمن ينتج ومن يصنع ومن يبتكر؟!.
تخيل لو الشركات صاحبة تلك التطبيقات إيقاف عملها في الشرق الأوسط، أو إيقاف الأرباح فقط؟ والسؤال الأهم بالنسبة لي وسط كل تلك الإغراءات بالشهرة سهلة الوصول، والمبالغ الكبيرة التي تحصل عليها مقابل أن تتخلى عن بعض المبادئ إن لم يكن كلها، مع تكريس كل الوقت لها … كيف أقنع ابني أن يختار الطريق الصحيح الذي يرضي دينه وضميره ونفسه ويحقق النجاح الحقيقي ليس المزيف؟!.