في تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، كانت كلمة “نوكيا” مرادفًا للهاتف المحمول. فمن فنلندا، انطلقت الشركة لتغزو العالم بهواتفها المتينة والموثوقة، حتى أصبحت في وقتٍ ما مسؤولة عن أكثر من 40% من مبيعات الهواتف المحمولة عالميًا. لكن من قمة المجد، تدحرجت نوكيا نحو هاوية النسيان، وانهارت إمبراطوريتها التقنية في أقل من عقد. فكيف حدث ذلك؟ ولماذا فشلت شركة كانت يومًا ما رمزًا للابتكار في مواكبة العصر؟

امبراطورية من رحم التحوّلات
تأسست نوكيا في عام 1865 كشركة لصناعة الورق، قبل أن تمر بسلسلة من التحوّلات الاستراتيجية، لتدخل في مجالات متعددة كصناعة الكيبلات والمطاط، ثم الإلكترونيات والاتصالات. مع حلول الثمانينيات، بدأت الشركة تركز على قطاع الاتصالات اللاسلكية، ومع انفجار سوق الهواتف المحمولة في التسعينيات، كانت نوكيا في المكان والزمان المناسبين.

في عام 1996، أصبحت نوكيا أكبر شركة لصناعة الهواتف المحمولة في العالم، بهواتف متميزة مثل نوكيا 3210 و3310 التي أصبحت أيقونات في الذاكرة التقنية العالمية. كان شعارها “Connecting People” أكثر من مجرد عبارة تسويقية، بل كان فلسفة عمل كاملة.
البساطة والاعتمادية
ما جعل نوكيا تهيمن على السوق لم يكن فقط التكنولوجيا، بل فهمها العميق لاحتياجات المستخدمين. كانت هواتفها سهلة الاستخدام، ذات بطاريات طويلة العمر، ومصممة لتحمّل الظروف القاسية. وبالإضافة إلى ذلك، استفادت نوكيا من سرعة توسيع شبكات التوزيع والبيع في الأسواق الناشئة مثل الهند وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
لكن النجاح، كما يحدث غالبًا، كان يخفي بذور الفشل.
الانحدار بدأ تجاهل التحوّلات
في عام 2007، أعلن ستيف جوبز عن أول آيفون، معلنًا ولادة عصر الهواتف الذكية بشاشات اللمس، وتطبيقات الهواتف المتكاملة، وتجربة استخدام ثورية. نوكيا، التي كانت آنذاك في أوج هيمنتها، لم تدرك خطورة التهديد القادم.

في حين اعتمد الآيفون على نظام تشغيل عصري (iOS) وتبعه نظام أندرويد المفتوح، تمسّكت نوكيا بنظامها Symbian، الذي كان معقدًا للمطورين ويصعب تحديثه. لم يكن النظام مؤهلاً لدعم تجربة التطبيقات الحديثة، ولا لمتطلبات مستخدمي الهواتف الذكية الذين بدأوا يبحثون عن أكثر من مجرد الاتصال والرسائل.
ثقافة متحجرة
يشير كثير من المحللين إلى أن أحد الأسباب الجوهرية لفشل نوكيا كان الثقافة المؤسسية التي سادت داخلها.
فبدلاً من الابتكار والمرونة، طغت البيروقراطية والخوف من المخاطرة. ووفقًا لشهادات عدد من الموظفين السابقين، كانت القرارات تتخذ بناءً على الولاء لا الكفاءة، وكانت الفرق تخشى تقديم أفكار جريئة خوفًا من الفشل أو الانتقاد الداخلي.
كما أن المنافسة بين الإدارات داخل الشركة خلقت حالة من الفوضى، وأدت إلى تضارب في القرارات الاستراتيجية.
تحالف متأخر مع مايكروسوفت
مع تراجع حصتها السوقية، حاولت نوكيا اللحاق بالركب. في عام 2011، أعلنت عن شراكة استراتيجية مع شركة مايكروسوفت، وتخلّت عن نظام “Symbian” لصالح نظام “Windows Phone”. ظنّت نوكيا أن هذه الخطوة ستنقذها، لكنها جاءت متأخرة جدًا.
لم يكن “Windows Phone” نظامًا ناضجًا بالقدر الكافي، ولم يكن يملك قاعدة مستخدمين أو مطورين نشطة كما هو الحال مع أندرويد وiOS. وبدلاً من استعادة موقعها، غرقت نوكيا في المزيد من التراجع.

وفي عام 2013، باعت نوكيا قطاع الهواتف لشركة مايكروسوفت مقابل 7.2 مليار دولار، في صفقة وصفت بأنها نهاية عصر، وبداية صفحة حزينة في تاريخ التكنولوجيا.
ماذا لو؟
يتساءل كثيرون: ماذا لو تبنّت نوكيا نظام أندرويد مبكرًا؟ أو ماذا لو أدارت قيادتها الانتقال نحو الهواتف الذكية بمرونة أكبر؟ الإجابات تبقى افتراضية.

لكن المؤكد أن عدم التكيّف مع التحوّلات التكنولوجية الكبرى، مع وجود قيادة بيروقراطية وثقافة مؤسسية جامدة، هي وصفة للفشل، مهما بلغت قوة العلامة التجارية.
لا مكان للرضا عن الذات
سقوط نوكيا ليس مجرد قصة عن شركة تكنولوجية فشلت، بل درس عميق لكل شركة ناجحة اليوم.
فالعالم الرقمي يتغير بسرعة، ولا مجال للركود أو الرضا عن الذات.
الابتكار، والاستماع إلى تغيّرات السوق، والقدرة على اتخاذ قرارات جريئة — حتى لو تطلّبت التخلي عن إرث ناجح — هي ما يميز الشركات القادرة على البقاء.

اليوم، تحاول نوكيا أن تعود، ولكن ليس في مجال الهواتف الذكية كما كانت. فقد أعادت هيكلة نفسها كشركة تركز على البنية التحتية لشبكات الاتصال والجيل الخامس (5G)، تاركة خلفها حلم الهيمنة على سوق المستهلكين.
فشل في الرؤية
سقوط نوكيا لم يكن بسبب نقص في الموارد أو غياب الموهبة، بل بسبب فشل في الرؤية والقدرة على التغيير. وفي عالم التكنولوجيا، حيث البقاء للأسرع والأكثر قدرة على التكيّف، تُعد قصة نوكيا تحذيرًا دائمًا لكل من يظن أن النجاح دائم.