عندما بدأ البروفيسور “توماس شامورو بريموزيك” في تدريس درجة الماجستير في إدارة الأعمال (MBA) منذ أكثر من 15 عاما، كانت الملاحظة الأولى التي لاحظها أن معظم الطلاب الجالسين أمامه في قاعة المحاضرات هدفهم الأول من وراء نيل هذه الشهادة هو الالتحاق بوظيفة مرموقة في شركات كبرى مثل “IBM” و”Unilever” وغيرها من المؤسسات البرمجية والمصرفية والمالية العملاقة.
بمرور الوقت، وبعد الصعود الكبير لشركات غوغل وفيسبوك وأمازون في الساحة العالمية، لاحظ البروفيسور نفسه أن أهداف طلابه تتغيّر، فبدلا من أن يكون الهدف لمعظمهم مُتمثِّلا في الحصول على وظائف مرموقة في شركات كبرى، أصبح معظم طلابه يخبرونه أن هدفهم الأساسي هو تأسيس شركة ناشئة مبدعة، وأنهم يرون أنفسهم روّاد أعمال وليسوا موظفين تقليديين.
في العام 2017، أصدر البرفيسور شامورو كتاب “وهم الموهبة” (Talent Delusion) الذي ذكر في جوانبه أزمة الوهم الذي يقع فيه الكثيرون بخصوص مواهبهم وقدراتهم، من بينها الاندفاع الهائل من الجميع تجاه مجال ريادة الأعمال تحديدا، وما يتبعها من صدمة يتعرّض لها الأغلبية بعد تحقيق فشل مُريع.
“الغالبية أصبحوا الآن يخبرونك: أنا “فتى شركات ناشئة”، وسوف أُطلق شيئا ما جديدا، وسوف أكون الشيء الكبير التالي. أنا لديّ فكرة، ولا أحب فكرة أن يكون لديّ مدير في العمل، سوف أكون “إيلون ماسك” الجديد. حسنا، مَن نكون نحن كأساتذة حتى ندمّر نفسياتهم أو نسخر منهم؟ ولكن مسؤوليتنا هو أن نخبر هؤلاء الناس أن إمكانية تحقيق هذه الأحلام هي بالفعل منخفضة للغاية، وأنهم في سبيل الوصول إليها سيضحّون بأشياء عديدة، وأن الأمر لا يبدو بهذه السهولة”.
إباحية ريادة الأعمال!
المفهوم الأساسي الذي تدور حوله صناعة الإباحية (Pornography) ليس تقديم الجنس فقط، وإنما تقديم “فانتازيا الجنس”. تقوم صناعة الإباحية على تزييف الواقع عبر تقديم صور فانتازية تداعب الخيال وتُعلي مستويات الإثارة للمُتلقّي، اعتمادا على اندفاع داخلي يتوق للبحث عن مادة جنسية، فتكون النتيجة إشباعا مؤقتا لتلك الإثارة واختلاطها بمستويات عالية من الخيال والفانتازيا والتزييف على الشاشة، فيُصاب المُشاهد بالإدمان على متابعتها، وتهدِر آلات صناعتها بلا توقف بإيرادات هائلة بمليارات الدولارات.
في عالم ريادة الأعمال -خصوصا في السنوات الأخيرة- بدأ في الظهور مصطلح له مبادئ الاعتماد على الفانتازيا أكثر من الحقيقة، وهو مصطلح “إباحية ريادة الأعمال” (Entrepreneurship porn). الترويج الهائل والمستمر لفكرة أنك ستكون ستيف جوبز القادم، آلاف فيديوهات التحفيز التي تدفعك للتخلي عن وظيفتك وبدء مشروعك الخاص، تلميع هائل لحياة رائد الأعمال العصرية المليئة بطاولات الاجتماعات وأخبار التمويلات الكبرى والمباني الضخمة ورحلات رائد الأعمال حول العالم، وغيرها من التأثيرات التي تُشعل رغبة المُتلقّي في اقتحام هذا العالم دون تخطيط سابق.
هذه الحالة على الرغم من مميزاتها في إعطائها دفعة تحفيز كبيرة للمتأثّرين بها لا يمكن تجاهلها، فإنها في الوقت نفسه تلعب دورا مُطابقا للمفهوم الذي تقوم عليه صناعة الإباحية، وهو تقديم صورة مزيّفة فانتازية عن واقع عالم ريادة الأعمال، والتركيز على نماذج معينة تسوّق لمعاني التألق والإبداع والثراء والراحة، وتتجاهل جوانب مظلمة أو تمرّ عليها سريعا؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى التهلكة بالملايين من المسحورين بالدخول إلى هذا العالم.
بريق لقب “المؤسس” الذي يعمي العيون
في مقالتها “الصعود الخطير لإباحية ريادة الأعمال” (The Dangerous Rise of Entrepreneurship porn) التي نُشرت في مجلة هارفارد بيزنس ريفيو المتخصصة في الأعمال سنة 2014، استعرضت الريادية مورا آرونز ميلي رؤيتها لهذا المصطلح بناء على تجربتها الشخصية في التحول من وظيفتها النظامية إلى رائدة أعمال. وصفت “ميلي” حالة التسويق المحموم لريادة الأعمال والترويج لها بأنها “واقع مشوّش يسعى الكل فيه لإطلاق وإدارة عمل خاص لتحقيق أحلام شخصية للحياة والعمل”.
تقول مورا ميلي إن السعي وراء اسم “رائد أعمال” هو شيء أميركي للغاية نابع من عجلة دوران الحلم الأميركي في التحرر الظاهري من الوظيفة، والانغماس الكامل في مظاهر برّاقة تروّج أن “مؤسس” (Founder) شركة ناشئة متعثّرة قد يكون أفضل حالا من “موظف” في شركة ناجحة بالفعل. ويكون هذا الاندفاع في معظم الأوقات بتحفيز الرغبة في إنهاء العمل النظامي المعتاد أو ما يُطلق عليه وظيفة الـ 9 صباحا إلى الـ 5 مساء، والانغماس في طريقة حياة يبدو من ظاهرها الحرية الكاملة في حالة يغيب فيها المدير بمفهومه التقليدي ويحلّ محله الاندفاع والرغبة لبناء شيء جديد تحت إشراف “إدارة الذات” وليس إدارة الآخرين.
في الواقع، وبعد أن أطلقت شركتين رياديتين تُشير مورا -بناء على تجربتها- إلى أن ريادة الأعمال أبعد ما تكون عن مفهوم “الحرية” البرّاق الذي يظنّه الجميع، وأن إطلاق شركة ناشئة لا يعني التحرر من طاحونة الوظيفة، بل يعني في معظم أحواله توقّف التدفق النقدي الذي كنت تحصل عليه عادة، والدخول في دوامة واسعة من الضغوط المادية والاجتماعية من المؤكد أن الجميع غير قادر على اجتيازها بسهولة، خصوصا مع اختلاف الظروف والمتطلبات الحياتية بين شخص وآخر، وقدرة كل شخص على التحمّل، وأيضا مستوى خبراته وسرعة تأسيسه للمشروع وقوته.
الواقع الذي لا يخبرونك به!
تبيع “إباحية ريادة الأعمال” فكرة أن المغامرة في حد ذاتها متعة، المغامرة بترك الوظيفة النظامية المملة وتأسيس شركة جديدة والبدء في اقتحام عالم مجنون مليء بالأموال، ويتم الترويج لمفهوم “الفشل” فيه كجزء من الرحلة الممتعة. هذه الصورة البرّاقة تحفّز المتأثرين بها في اقتحام هذا العالم، متصوّرين أن روّاد الأعمال في الأصل مجموعة من المغامرين، وأن المغامرة جزء من المتعة التي تنتظر في نهايتها أموالا طائلة.
في دراسة مدهشة قامت بها جامعة ستانفورد العريقة بالتعاون مع جامعة برينستون، وتم إجراؤها على 60 ألف شخص في العام 2012، لقياس مستوى “الإقدام على المخاطرة” (Risk Tolerance). هذه الشريحة الكبيرة تمّ تقسيمها إلى مجموعتين، المجموعة الأولى تضم الأشخاص الذين بدأوا في تأسيس شركاتهم الناشئة في مقابل المجموعة الثانية التي تضم العوام (General Population) بكل فئاتهم من أطباء ومهندسين وعاملين وغيرهم. بمعنى آخر، قياس مستوى “المخاطرة” لدى الرياديين في مواجهة الأشخاص العاديين.
هنا، تم وضع ثلاثة خيارات أمام المجموعتين -الرياديّين والعاديين- من ناحية “الاستثمار المغامر” (Venture investments)، أي الاستثمار في فرص أو مشروعات أو شركات مع نسبة احتمال نجاحها:
الخيار الأول: أن تكسب 5 ملايين دولار، مقابل احتمالية نجاح قدرها 20% فقط (أي 80% احتمال الخسارة).
الخيار الثاني: أن تكسب مليونَيْ دولار، مقابل احتمالية نجاح قدرها 50% (أي إن احتمال النجاح يساوي احتمال الفشل)
الخيار الثالث: أن تكسب 1.2 مليون دولار، مقابل احتمال نجاح يصل إلى 80% (أي احتمال الخسارة 20% فقط).
التصوّر العام والبديهي الذي سيقفز في الأذهان قطعًا هو أن مجموعة الرياديين -بكل ما يُثار عن عالم ريادة الأعمال بأنه عالم مُغامر- سوف يميلون إلى الذهاب إلى الخيار الأول، أن تكسب 5 ملايين دولار مقابل احتمالية خسارة عالية، أي نموذج أعلى ربح ممكن حتى لو كان احتمال فشله عاليا للغاية. بينما سيميل الأشخاص العاديّون إلى الذهاب إلى الخيار الثالث الآمن، وهو مكسب 1.2 مليون دولار -أقل ربح- مقابل احتمالية نجاح عالية وخسارة ضئيلة وظروف آمنة إلى أقصى حد.
المدهش أن نتائج الدراسة أثبتت العكس تماما؛ انحاز معظم الرياديين إلى الخيار الثالث الآمن -ربح أقل لكن مضمون- بينما انحاز الأشخاص العاديون إلى الخيار الأول المغامر، ربح مرتفع للغاية ولكن نسبة خسارته عالية. الدراسة أوضحت أن فانتازيا المغامرة التي تُنسب دائما لروّاد الأعمال أنهم دائما مغامرون ويطمحون للفرص المميزة حتى في ظل احتمالات عالية من خسارتها هي تصورات غير حقيقية، وأن روّاد الأعمال يميلون إلى الأرباح المضمونة، بينما الأشخاص العاديون، وتحت تأثير بريق إباحية ريادة الأعمال يفترضون أن الصحيح هو الذهاب إلى المغامرات بأعلى أشكالها التي تُحقِّق أعلى مكسب ممكن، حتى لو كانت نسبة نجاحها ضئيلة، تحت تأثير الاندفاع المشوّش لفكرة “المغامرة” في عالم ريادة الأعمال.
في العام 2016، أصدر آدم غرانت البرفيسور في مجال الإدارة بكلية وارتون جامعة بنسلفانيا كتابا بعنوان “الأصليون” (Originals) يُسلِّط فيه الضوء على أبرز “الأساطير” التي يتم الترويج لها باعتبارها أساسيات في طريق النجاح، خصوصا في مجال الأعمال. واحدة من أهم هذه الأساطير التي هدمها غرانت في كتابه هي أسطورة التضحية بوضع حالي مستقر في سبيل بناء وضع أفضل مستقبلا غير مضمون النتائج، أو ما يعني في عالم ريادة الأعمال مفهوم “الاستقالة” من الوظيفة الحالية من أجل مطاردة الشغف وبناء شركة ناشئة عظيمة.
يقول غرانت إن التسويق لهذه الحالة في التسويق لإباحية ريادة الأعمال بترك الوظيفة وبدء شركة ناشئة حالة مزيّفة ومشوّشة بالكامل وتناقض تماما الكثير من النماذج التي يتم الترويج لها باعتبارهم مغامرين انتحاريين. مؤسس شركة مايكروسوفت العملاقة بيل غيتس الذي يُقال دائما إنه ترك الجامعة ليتفرغ لتأسيس شركته، في الواقع هو لم يتخذ هذا القرار إلا بعد عام كامل انتهى فيه من تطوير برمجياته، وتلقّى عروضا واضحة من مستثمرين بخصوص بدء تمويل شركته.
ستيف ووزنياك، الشريك المؤسس لشركة آبل العملاقة، استمر في العمل في وظيفته النظامية لمدة عام كامل في شركة “هيوليت باكارد” (HP) بعد اختراع جهاز حاسوب “آبل 1” الذي اعتُبِر ضربة البداية لشركة آبل، ثم قرر -بعد عام كامل من استمراره في وظيفته- أن يتفرّغ للعمل مع صديقه ستيف جوبز بعد توالي عروض التمويل والتأكد أن الشركة لها مستقبل واعد.
حتى لاري بيغ وسيرجي برين مؤسسا غوغل، بعد أن اكتشفا الطرق التي يمكنها تحسين أداء البحث على الإنترنت بشكل كبير، استمر كلاهما لمدة عامين في جامعة ستانفورد، قبل أن يُقرِّرا التخلي عن وظيفتهما في الجامعة وإطلاق شركة غوغل. عشرات الأمثلة التي تُعتَبر أيقونات ريادية شهيرة في هذا العالم، ويتم تقديمها طوال الوقت باعتبارهم المغامرين الذين تمردوا على حياتهم النمطية وبدأوا شركاتهم بشكل مغامر، كانوا في الواقع شديدي الحيطة قبل اتخاذ هذا القرار.
الأمر ليس قائما على مواقف فردية لروّاد الأعمال، بل تمّ دراسته بحثيا كذلك بواسطة باحثين في مجال الإدارة في جامعة ويسكونسين. الدراسة تم إجراؤها على 5 آلاف شخص أميركي تحوّل إلى مجال ريادة الأعمال وتأسيس الشركات الناشئة على مدار 12 عاما كاملا. الدراسة كشفت أن روّاد الأعمال الذين بدأوا في تأسيس شركاتهم الناشئة في الوقت الذي احتفظوا فيه بوظائفهم التقليدية، كانوا أقل عُرضة للفشل بنسبة 33% من الأشخاص الذين غامروا بالاستقالة من وظائفهم لبدء تأسيس شركاتهم الناشئة.
غيّر العالم.. وابدأ مبكرا
بمجرد الإشارة إلى عالم ريادة الأعمال، دائما يقفز اسم “مارك زوكربيرغ” مؤسس فيسبوك في الواجهة، ودائما القصة المكررة أنه بدأ في إطلاق شركته وهو ابن 19 عاما. ولا يختلف الأمر حول بيل غيتس مؤسس مايكروسوفت وستيف جوبز مؤسس آبل الذي بدأ تأسيس شركته في الحادية والعشرين من عمره. دائما اللعب على وتر ابدأ مشروعك الريادي مبكرا وكن استثنائيا في مراهقتك، لتحصل على المليارات وأنت صغير السن.
هذا الاتجاه -بدء مشروعك الريادي مبكرا- يحمل تشويشا كاملا للحقيقة. فعلى مدار سنوات، قامت العديد من المؤسسات المتخصصة في مجال ريادة الأعمال بعمل دراسات لمحاولة التوصل لمتوسط العمر الأفضل لبدء تأسيس شركة ناشئة، موقع “تيك كرنش” حدد عمر 31 عاما كأفضل عمر لإطلاق شركة ناشئة بناء على تحليل أعمار المؤسسين للشركات الناشئة التي حازت على جوائز تيك كرنش الريادية على مدار عشر سنوات كاملة. أما مجلة “Inc” الريادية، فقد حددت عمر الـ 29 متوسطا لأعمار المؤسسين الذين يُطلقون شركات سريعة النمو.
إلا أن الدراسة الأحدث والأكثر تخصصا أصدرتها مؤسسة “MIT” في صيف العام 2018 وجدت أن متوسط العمر الأفضل لتأسيس شركات ناشئة تحقق نسبة نجاح أعلى هو 45 عاما، أي إن العمر الأنسب للتحوّل إلى رائد أعمال وتأسيس شركة ناشئة بنسبة فشل أقل هو منتصف العمر وليس بداياته، باعتبار أنها مرحلة النضج الوظيفي والخبرات المتراكمة التي تجنّب صاحب المشروع السقوط في فخ الفشل أو الأحلام الوردية.
في النهاية، تأسيس شركة ناشئة ليس مهمة سهلة أو مجرّد بريق اجتماعي أو صور على إنستغرام أو ظهور إعلامي، بل هو عملية مُخاطرة حقيقية ليس فقط بالمال والجُهد، وإنما أيضا مخاطرة باتخاذ مسار شائك نتائجه غير مضمونة من كل جوانبها. الشيء الوحيد الذي يضمن البقاء في هذا العالم هو أن يقتحمه رائد الأعمال بناء على تصوّر حقيقي له وليس انجذابا وراء صورة مزيّفة لا علاقة لها بالحقيقة.
المقال للكاتب عماد أبو الفتوح نقلاً عن موقع ميدان
عندما بدأ البروفيسور “توماس شامورو بريموزيك” في تدريس درجة الماجستير في إدارة الأعمال (MBA) منذ أكثر من 15 عاما، كانت الملاحظة الأولى التي لاحظها أن معظم الطلاب الجالسين أمامه في قاعة المحاضرات هدفهم الأول من وراء نيل هذه الشهادة هو الالتحاق بوظيفة مرموقة في شركات كبرى مثل “IBM” و”Unilever” وغيرها من المؤسسات البرمجية والمصرفية والمالية العملاقة.
بمرور الوقت، وبعد الصعود الكبير لشركات غوغل وفيسبوك وأمازون في الساحة العالمية، لاحظ البروفيسور نفسه أن أهداف طلابه تتغيّر، فبدلا من أن يكون الهدف لمعظمهم مُتمثِّلا في الحصول على وظائف مرموقة في شركات كبرى، أصبح معظم طلابه يخبرونه أن هدفهم الأساسي هو تأسيس شركة ناشئة مبدعة، وأنهم يرون أنفسهم روّاد أعمال وليسوا موظفين تقليديين.
في العام 2017، أصدر البرفيسور شامورو كتاب “وهم الموهبة” (Talent Delusion) الذي ذكر في جوانبه أزمة الوهم الذي يقع فيه الكثيرون بخصوص مواهبهم وقدراتهم، من بينها الاندفاع الهائل من الجميع تجاه مجال ريادة الأعمال تحديدا، وما يتبعها من صدمة يتعرّض لها الأغلبية بعد تحقيق فشل مُريع.
“الغالبية أصبحوا الآن يخبرونك: أنا “فتى شركات ناشئة”، وسوف أُطلق شيئا ما جديدا، وسوف أكون الشيء الكبير التالي. أنا لديّ فكرة، ولا أحب فكرة أن يكون لديّ مدير في العمل، سوف أكون “إيلون ماسك” الجديد. حسنا، مَن نكون نحن كأساتذة حتى ندمّر نفسياتهم أو نسخر منهم؟ ولكن مسؤوليتنا هو أن نخبر هؤلاء الناس أن إمكانية تحقيق هذه الأحلام هي بالفعل منخفضة للغاية، وأنهم في سبيل الوصول إليها سيضحّون بأشياء عديدة، وأن الأمر لا يبدو بهذه السهولة”.
إباحية ريادة الأعمال!
المفهوم الأساسي الذي تدور حوله صناعة الإباحية (Pornography) ليس تقديم الجنس فقط، وإنما تقديم “فانتازيا الجنس”. تقوم صناعة الإباحية على تزييف الواقع عبر تقديم صور فانتازية تداعب الخيال وتُعلي مستويات الإثارة للمُتلقّي، اعتمادا على اندفاع داخلي يتوق للبحث عن مادة جنسية، فتكون النتيجة إشباعا مؤقتا لتلك الإثارة واختلاطها بمستويات عالية من الخيال والفانتازيا والتزييف على الشاشة، فيُصاب المُشاهد بالإدمان على متابعتها، وتهدِر آلات صناعتها بلا توقف بإيرادات هائلة بمليارات الدولارات.
في عالم ريادة الأعمال -خصوصا في السنوات الأخيرة- بدأ في الظهور مصطلح له مبادئ الاعتماد على الفانتازيا أكثر من الحقيقة، وهو مصطلح “إباحية ريادة الأعمال” (Entrepreneurship porn). الترويج الهائل والمستمر لفكرة أنك ستكون ستيف جوبز القادم، آلاف فيديوهات التحفيز التي تدفعك للتخلي عن وظيفتك وبدء مشروعك الخاص، تلميع هائل لحياة رائد الأعمال العصرية المليئة بطاولات الاجتماعات وأخبار التمويلات الكبرى والمباني الضخمة ورحلات رائد الأعمال حول العالم، وغيرها من التأثيرات التي تُشعل رغبة المُتلقّي في اقتحام هذا العالم دون تخطيط سابق.
هذه الحالة على الرغم من مميزاتها في إعطائها دفعة تحفيز كبيرة للمتأثّرين بها لا يمكن تجاهلها، فإنها في الوقت نفسه تلعب دورا مُطابقا للمفهوم الذي تقوم عليه صناعة الإباحية، وهو تقديم صورة مزيّفة فانتازية عن واقع عالم ريادة الأعمال، والتركيز على نماذج معينة تسوّق لمعاني التألق والإبداع والثراء والراحة، وتتجاهل جوانب مظلمة أو تمرّ عليها سريعا؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى التهلكة بالملايين من المسحورين بالدخول إلى هذا العالم.
بريق لقب “المؤسس” الذي يعمي العيون
في مقالتها “الصعود الخطير لإباحية ريادة الأعمال” (The Dangerous Rise of Entrepreneurship porn) التي نُشرت في مجلة هارفارد بيزنس ريفيو المتخصصة في الأعمال سنة 2014، استعرضت الريادية مورا آرونز ميلي رؤيتها لهذا المصطلح بناء على تجربتها الشخصية في التحول من وظيفتها النظامية إلى رائدة أعمال. وصفت “ميلي” حالة التسويق المحموم لريادة الأعمال والترويج لها بأنها “واقع مشوّش يسعى الكل فيه لإطلاق وإدارة عمل خاص لتحقيق أحلام شخصية للحياة والعمل”.
تقول مورا ميلي إن السعي وراء اسم “رائد أعمال” هو شيء أميركي للغاية نابع من عجلة دوران الحلم الأميركي في التحرر الظاهري من الوظيفة، والانغماس الكامل في مظاهر برّاقة تروّج أن “مؤسس” (Founder) شركة ناشئة متعثّرة قد يكون أفضل حالا من “موظف” في شركة ناجحة بالفعل. ويكون هذا الاندفاع في معظم الأوقات بتحفيز الرغبة في إنهاء العمل النظامي المعتاد أو ما يُطلق عليه وظيفة الـ 9 صباحا إلى الـ 5 مساء، والانغماس في طريقة حياة يبدو من ظاهرها الحرية الكاملة في حالة يغيب فيها المدير بمفهومه التقليدي ويحلّ محله الاندفاع والرغبة لبناء شيء جديد تحت إشراف “إدارة الذات” وليس إدارة الآخرين.
في الواقع، وبعد أن أطلقت شركتين رياديتين تُشير مورا -بناء على تجربتها- إلى أن ريادة الأعمال أبعد ما تكون عن مفهوم “الحرية” البرّاق الذي يظنّه الجميع، وأن إطلاق شركة ناشئة لا يعني التحرر من طاحونة الوظيفة، بل يعني في معظم أحواله توقّف التدفق النقدي الذي كنت تحصل عليه عادة، والدخول في دوامة واسعة من الضغوط المادية والاجتماعية من المؤكد أن الجميع غير قادر على اجتيازها بسهولة، خصوصا مع اختلاف الظروف والمتطلبات الحياتية بين شخص وآخر، وقدرة كل شخص على التحمّل، وأيضا مستوى خبراته وسرعة تأسيسه للمشروع وقوته.
الواقع الذي لا يخبرونك به!
تبيع “إباحية ريادة الأعمال” فكرة أن المغامرة في حد ذاتها متعة، المغامرة بترك الوظيفة النظامية المملة وتأسيس شركة جديدة والبدء في اقتحام عالم مجنون مليء بالأموال، ويتم الترويج لمفهوم “الفشل” فيه كجزء من الرحلة الممتعة. هذه الصورة البرّاقة تحفّز المتأثرين بها في اقتحام هذا العالم، متصوّرين أن روّاد الأعمال في الأصل مجموعة من المغامرين، وأن المغامرة جزء من المتعة التي تنتظر في نهايتها أموالا طائلة.
في دراسة مدهشة قامت بها جامعة ستانفورد العريقة بالتعاون مع جامعة برينستون، وتم إجراؤها على 60 ألف شخص في العام 2012، لقياس مستوى “الإقدام على المخاطرة” (Risk Tolerance). هذه الشريحة الكبيرة تمّ تقسيمها إلى مجموعتين، المجموعة الأولى تضم الأشخاص الذين بدأوا في تأسيس شركاتهم الناشئة في مقابل المجموعة الثانية التي تضم العوام (General Population) بكل فئاتهم من أطباء ومهندسين وعاملين وغيرهم. بمعنى آخر، قياس مستوى “المخاطرة” لدى الرياديين في مواجهة الأشخاص العاديين.
هنا، تم وضع ثلاثة خيارات أمام المجموعتين -الرياديّين والعاديين- من ناحية “الاستثمار المغامر” (Venture investments)، أي الاستثمار في فرص أو مشروعات أو شركات مع نسبة احتمال نجاحها:
الخيار الأول: أن تكسب 5 ملايين دولار، مقابل احتمالية نجاح قدرها 20% فقط (أي 80% احتمال الخسارة).
الخيار الثاني: أن تكسب مليونَيْ دولار، مقابل احتمالية نجاح قدرها 50% (أي إن احتمال النجاح يساوي احتمال الفشل)
الخيار الثالث: أن تكسب 1.2 مليون دولار، مقابل احتمال نجاح يصل إلى 80% (أي احتمال الخسارة 20% فقط).
التصوّر العام والبديهي الذي سيقفز في الأذهان قطعًا هو أن مجموعة الرياديين -بكل ما يُثار عن عالم ريادة الأعمال بأنه عالم مُغامر- سوف يميلون إلى الذهاب إلى الخيار الأول، أن تكسب 5 ملايين دولار مقابل احتمالية خسارة عالية، أي نموذج أعلى ربح ممكن حتى لو كان احتمال فشله عاليا للغاية. بينما سيميل الأشخاص العاديّون إلى الذهاب إلى الخيار الثالث الآمن، وهو مكسب 1.2 مليون دولار -أقل ربح- مقابل احتمالية نجاح عالية وخسارة ضئيلة وظروف آمنة إلى أقصى حد.
المدهش أن نتائج الدراسة أثبتت العكس تماما؛ انحاز معظم الرياديين إلى الخيار الثالث الآمن -ربح أقل لكن مضمون- بينما انحاز الأشخاص العاديون إلى الخيار الأول المغامر، ربح مرتفع للغاية ولكن نسبة خسارته عالية. الدراسة أوضحت أن فانتازيا المغامرة التي تُنسب دائما لروّاد الأعمال أنهم دائما مغامرون ويطمحون للفرص المميزة حتى في ظل احتمالات عالية من خسارتها هي تصورات غير حقيقية، وأن روّاد الأعمال يميلون إلى الأرباح المضمونة، بينما الأشخاص العاديون، وتحت تأثير بريق إباحية ريادة الأعمال يفترضون أن الصحيح هو الذهاب إلى المغامرات بأعلى أشكالها التي تُحقِّق أعلى مكسب ممكن، حتى لو كانت نسبة نجاحها ضئيلة، تحت تأثير الاندفاع المشوّش لفكرة “المغامرة” في عالم ريادة الأعمال.
في العام 2016، أصدر آدم غرانت البرفيسور في مجال الإدارة بكلية وارتون جامعة بنسلفانيا كتابا بعنوان “الأصليون” (Originals) يُسلِّط فيه الضوء على أبرز “الأساطير” التي يتم الترويج لها باعتبارها أساسيات في طريق النجاح، خصوصا في مجال الأعمال. واحدة من أهم هذه الأساطير التي هدمها غرانت في كتابه هي أسطورة التضحية بوضع حالي مستقر في سبيل بناء وضع أفضل مستقبلا غير مضمون النتائج، أو ما يعني في عالم ريادة الأعمال مفهوم “الاستقالة” من الوظيفة الحالية من أجل مطاردة الشغف وبناء شركة ناشئة عظيمة.
يقول غرانت إن التسويق لهذه الحالة في التسويق لإباحية ريادة الأعمال بترك الوظيفة وبدء شركة ناشئة حالة مزيّفة ومشوّشة بالكامل وتناقض تماما الكثير من النماذج التي يتم الترويج لها باعتبارهم مغامرين انتحاريين. مؤسس شركة مايكروسوفت العملاقة بيل غيتس الذي يُقال دائما إنه ترك الجامعة ليتفرغ لتأسيس شركته، في الواقع هو لم يتخذ هذا القرار إلا بعد عام كامل انتهى فيه من تطوير برمجياته، وتلقّى عروضا واضحة من مستثمرين بخصوص بدء تمويل شركته.
ستيف ووزنياك، الشريك المؤسس لشركة آبل العملاقة، استمر في العمل في وظيفته النظامية لمدة عام كامل في شركة “هيوليت باكارد” (HP) بعد اختراع جهاز حاسوب “آبل 1” الذي اعتُبِر ضربة البداية لشركة آبل، ثم قرر -بعد عام كامل من استمراره في وظيفته- أن يتفرّغ للعمل مع صديقه ستيف جوبز بعد توالي عروض التمويل والتأكد أن الشركة لها مستقبل واعد.
حتى لاري بيغ وسيرجي برين مؤسسا غوغل، بعد أن اكتشفا الطرق التي يمكنها تحسين أداء البحث على الإنترنت بشكل كبير، استمر كلاهما لمدة عامين في جامعة ستانفورد، قبل أن يُقرِّرا التخلي عن وظيفتهما في الجامعة وإطلاق شركة غوغل. عشرات الأمثلة التي تُعتَبر أيقونات ريادية شهيرة في هذا العالم، ويتم تقديمها طوال الوقت باعتبارهم المغامرين الذين تمردوا على حياتهم النمطية وبدأوا شركاتهم بشكل مغامر، كانوا في الواقع شديدي الحيطة قبل اتخاذ هذا القرار.
الأمر ليس قائما على مواقف فردية لروّاد الأعمال، بل تمّ دراسته بحثيا كذلك بواسطة باحثين في مجال الإدارة في جامعة ويسكونسين. الدراسة تم إجراؤها على 5 آلاف شخص أميركي تحوّل إلى مجال ريادة الأعمال وتأسيس الشركات الناشئة على مدار 12 عاما كاملا. الدراسة كشفت أن روّاد الأعمال الذين بدأوا في تأسيس شركاتهم الناشئة في الوقت الذي احتفظوا فيه بوظائفهم التقليدية، كانوا أقل عُرضة للفشل بنسبة 33% من الأشخاص الذين غامروا بالاستقالة من وظائفهم لبدء تأسيس شركاتهم الناشئة.
غيّر العالم.. وابدأ مبكرا
بمجرد الإشارة إلى عالم ريادة الأعمال، دائما يقفز اسم “مارك زوكربيرغ” مؤسس فيسبوك في الواجهة، ودائما القصة المكررة أنه بدأ في إطلاق شركته وهو ابن 19 عاما. ولا يختلف الأمر حول بيل غيتس مؤسس مايكروسوفت وستيف جوبز مؤسس آبل الذي بدأ تأسيس شركته في الحادية والعشرين من عمره. دائما اللعب على وتر ابدأ مشروعك الريادي مبكرا وكن استثنائيا في مراهقتك، لتحصل على المليارات وأنت صغير السن.
هذا الاتجاه -بدء مشروعك الريادي مبكرا- يحمل تشويشا كاملا للحقيقة. فعلى مدار سنوات، قامت العديد من المؤسسات المتخصصة في مجال ريادة الأعمال بعمل دراسات لمحاولة التوصل لمتوسط العمر الأفضل لبدء تأسيس شركة ناشئة، موقع “تيك كرنش” حدد عمر 31 عاما كأفضل عمر لإطلاق شركة ناشئة بناء على تحليل أعمار المؤسسين للشركات الناشئة التي حازت على جوائز تيك كرنش الريادية على مدار عشر سنوات كاملة. أما مجلة “Inc” الريادية، فقد حددت عمر الـ 29 متوسطا لأعمار المؤسسين الذين يُطلقون شركات سريعة النمو.
إلا أن الدراسة الأحدث والأكثر تخصصا أصدرتها مؤسسة “MIT” في صيف العام 2018 وجدت أن متوسط العمر الأفضل لتأسيس شركات ناشئة تحقق نسبة نجاح أعلى هو 45 عاما، أي إن العمر الأنسب للتحوّل إلى رائد أعمال وتأسيس شركة ناشئة بنسبة فشل أقل هو منتصف العمر وليس بداياته، باعتبار أنها مرحلة النضج الوظيفي والخبرات المتراكمة التي تجنّب صاحب المشروع السقوط في فخ الفشل أو الأحلام الوردية.
في النهاية، تأسيس شركة ناشئة ليس مهمة سهلة أو مجرّد بريق اجتماعي أو صور على إنستغرام أو ظهور إعلامي، بل هو عملية مُخاطرة حقيقية ليس فقط بالمال والجُهد، وإنما أيضا مخاطرة باتخاذ مسار شائك نتائجه غير مضمونة من كل جوانبها. الشيء الوحيد الذي يضمن البقاء في هذا العالم هو أن يقتحمه رائد الأعمال بناء على تصوّر حقيقي له وليس انجذابا وراء صورة مزيّفة لا علاقة لها بالحقيقة.
المقال للكاتب عماد أبو الفتوح نقلاً عن موقع ميدان
عندما بدأ البروفيسور “توماس شامورو بريموزيك” في تدريس درجة الماجستير في إدارة الأعمال (MBA) منذ أكثر من 15 عاما، كانت الملاحظة الأولى التي لاحظها أن معظم الطلاب الجالسين أمامه في قاعة المحاضرات هدفهم الأول من وراء نيل هذه الشهادة هو الالتحاق بوظيفة مرموقة في شركات كبرى مثل “IBM” و”Unilever” وغيرها من المؤسسات البرمجية والمصرفية والمالية العملاقة.
بمرور الوقت، وبعد الصعود الكبير لشركات غوغل وفيسبوك وأمازون في الساحة العالمية، لاحظ البروفيسور نفسه أن أهداف طلابه تتغيّر، فبدلا من أن يكون الهدف لمعظمهم مُتمثِّلا في الحصول على وظائف مرموقة في شركات كبرى، أصبح معظم طلابه يخبرونه أن هدفهم الأساسي هو تأسيس شركة ناشئة مبدعة، وأنهم يرون أنفسهم روّاد أعمال وليسوا موظفين تقليديين.
في العام 2017، أصدر البرفيسور شامورو كتاب “وهم الموهبة” (Talent Delusion) الذي ذكر في جوانبه أزمة الوهم الذي يقع فيه الكثيرون بخصوص مواهبهم وقدراتهم، من بينها الاندفاع الهائل من الجميع تجاه مجال ريادة الأعمال تحديدا، وما يتبعها من صدمة يتعرّض لها الأغلبية بعد تحقيق فشل مُريع.
“الغالبية أصبحوا الآن يخبرونك: أنا “فتى شركات ناشئة”، وسوف أُطلق شيئا ما جديدا، وسوف أكون الشيء الكبير التالي. أنا لديّ فكرة، ولا أحب فكرة أن يكون لديّ مدير في العمل، سوف أكون “إيلون ماسك” الجديد. حسنا، مَن نكون نحن كأساتذة حتى ندمّر نفسياتهم أو نسخر منهم؟ ولكن مسؤوليتنا هو أن نخبر هؤلاء الناس أن إمكانية تحقيق هذه الأحلام هي بالفعل منخفضة للغاية، وأنهم في سبيل الوصول إليها سيضحّون بأشياء عديدة، وأن الأمر لا يبدو بهذه السهولة”.
إباحية ريادة الأعمال!
المفهوم الأساسي الذي تدور حوله صناعة الإباحية (Pornography) ليس تقديم الجنس فقط، وإنما تقديم “فانتازيا الجنس”. تقوم صناعة الإباحية على تزييف الواقع عبر تقديم صور فانتازية تداعب الخيال وتُعلي مستويات الإثارة للمُتلقّي، اعتمادا على اندفاع داخلي يتوق للبحث عن مادة جنسية، فتكون النتيجة إشباعا مؤقتا لتلك الإثارة واختلاطها بمستويات عالية من الخيال والفانتازيا والتزييف على الشاشة، فيُصاب المُشاهد بالإدمان على متابعتها، وتهدِر آلات صناعتها بلا توقف بإيرادات هائلة بمليارات الدولارات.
في عالم ريادة الأعمال -خصوصا في السنوات الأخيرة- بدأ في الظهور مصطلح له مبادئ الاعتماد على الفانتازيا أكثر من الحقيقة، وهو مصطلح “إباحية ريادة الأعمال” (Entrepreneurship porn). الترويج الهائل والمستمر لفكرة أنك ستكون ستيف جوبز القادم، آلاف فيديوهات التحفيز التي تدفعك للتخلي عن وظيفتك وبدء مشروعك الخاص، تلميع هائل لحياة رائد الأعمال العصرية المليئة بطاولات الاجتماعات وأخبار التمويلات الكبرى والمباني الضخمة ورحلات رائد الأعمال حول العالم، وغيرها من التأثيرات التي تُشعل رغبة المُتلقّي في اقتحام هذا العالم دون تخطيط سابق.
هذه الحالة على الرغم من مميزاتها في إعطائها دفعة تحفيز كبيرة للمتأثّرين بها لا يمكن تجاهلها، فإنها في الوقت نفسه تلعب دورا مُطابقا للمفهوم الذي تقوم عليه صناعة الإباحية، وهو تقديم صورة مزيّفة فانتازية عن واقع عالم ريادة الأعمال، والتركيز على نماذج معينة تسوّق لمعاني التألق والإبداع والثراء والراحة، وتتجاهل جوانب مظلمة أو تمرّ عليها سريعا؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى التهلكة بالملايين من المسحورين بالدخول إلى هذا العالم.
بريق لقب “المؤسس” الذي يعمي العيون
في مقالتها “الصعود الخطير لإباحية ريادة الأعمال” (The Dangerous Rise of Entrepreneurship porn) التي نُشرت في مجلة هارفارد بيزنس ريفيو المتخصصة في الأعمال سنة 2014، استعرضت الريادية مورا آرونز ميلي رؤيتها لهذا المصطلح بناء على تجربتها الشخصية في التحول من وظيفتها النظامية إلى رائدة أعمال. وصفت “ميلي” حالة التسويق المحموم لريادة الأعمال والترويج لها بأنها “واقع مشوّش يسعى الكل فيه لإطلاق وإدارة عمل خاص لتحقيق أحلام شخصية للحياة والعمل”.
تقول مورا ميلي إن السعي وراء اسم “رائد أعمال” هو شيء أميركي للغاية نابع من عجلة دوران الحلم الأميركي في التحرر الظاهري من الوظيفة، والانغماس الكامل في مظاهر برّاقة تروّج أن “مؤسس” (Founder) شركة ناشئة متعثّرة قد يكون أفضل حالا من “موظف” في شركة ناجحة بالفعل. ويكون هذا الاندفاع في معظم الأوقات بتحفيز الرغبة في إنهاء العمل النظامي المعتاد أو ما يُطلق عليه وظيفة الـ 9 صباحا إلى الـ 5 مساء، والانغماس في طريقة حياة يبدو من ظاهرها الحرية الكاملة في حالة يغيب فيها المدير بمفهومه التقليدي ويحلّ محله الاندفاع والرغبة لبناء شيء جديد تحت إشراف “إدارة الذات” وليس إدارة الآخرين.
في الواقع، وبعد أن أطلقت شركتين رياديتين تُشير مورا -بناء على تجربتها- إلى أن ريادة الأعمال أبعد ما تكون عن مفهوم “الحرية” البرّاق الذي يظنّه الجميع، وأن إطلاق شركة ناشئة لا يعني التحرر من طاحونة الوظيفة، بل يعني في معظم أحواله توقّف التدفق النقدي الذي كنت تحصل عليه عادة، والدخول في دوامة واسعة من الضغوط المادية والاجتماعية من المؤكد أن الجميع غير قادر على اجتيازها بسهولة، خصوصا مع اختلاف الظروف والمتطلبات الحياتية بين شخص وآخر، وقدرة كل شخص على التحمّل، وأيضا مستوى خبراته وسرعة تأسيسه للمشروع وقوته.
الواقع الذي لا يخبرونك به!
تبيع “إباحية ريادة الأعمال” فكرة أن المغامرة في حد ذاتها متعة، المغامرة بترك الوظيفة النظامية المملة وتأسيس شركة جديدة والبدء في اقتحام عالم مجنون مليء بالأموال، ويتم الترويج لمفهوم “الفشل” فيه كجزء من الرحلة الممتعة. هذه الصورة البرّاقة تحفّز المتأثرين بها في اقتحام هذا العالم، متصوّرين أن روّاد الأعمال في الأصل مجموعة من المغامرين، وأن المغامرة جزء من المتعة التي تنتظر في نهايتها أموالا طائلة.
في دراسة مدهشة قامت بها جامعة ستانفورد العريقة بالتعاون مع جامعة برينستون، وتم إجراؤها على 60 ألف شخص في العام 2012، لقياس مستوى “الإقدام على المخاطرة” (Risk Tolerance). هذه الشريحة الكبيرة تمّ تقسيمها إلى مجموعتين، المجموعة الأولى تضم الأشخاص الذين بدأوا في تأسيس شركاتهم الناشئة في مقابل المجموعة الثانية التي تضم العوام (General Population) بكل فئاتهم من أطباء ومهندسين وعاملين وغيرهم. بمعنى آخر، قياس مستوى “المخاطرة” لدى الرياديين في مواجهة الأشخاص العاديين.
هنا، تم وضع ثلاثة خيارات أمام المجموعتين -الرياديّين والعاديين- من ناحية “الاستثمار المغامر” (Venture investments)، أي الاستثمار في فرص أو مشروعات أو شركات مع نسبة احتمال نجاحها:
الخيار الأول: أن تكسب 5 ملايين دولار، مقابل احتمالية نجاح قدرها 20% فقط (أي 80% احتمال الخسارة).
الخيار الثاني: أن تكسب مليونَيْ دولار، مقابل احتمالية نجاح قدرها 50% (أي إن احتمال النجاح يساوي احتمال الفشل)
الخيار الثالث: أن تكسب 1.2 مليون دولار، مقابل احتمال نجاح يصل إلى 80% (أي احتمال الخسارة 20% فقط).
التصوّر العام والبديهي الذي سيقفز في الأذهان قطعًا هو أن مجموعة الرياديين -بكل ما يُثار عن عالم ريادة الأعمال بأنه عالم مُغامر- سوف يميلون إلى الذهاب إلى الخيار الأول، أن تكسب 5 ملايين دولار مقابل احتمالية خسارة عالية، أي نموذج أعلى ربح ممكن حتى لو كان احتمال فشله عاليا للغاية. بينما سيميل الأشخاص العاديّون إلى الذهاب إلى الخيار الثالث الآمن، وهو مكسب 1.2 مليون دولار -أقل ربح- مقابل احتمالية نجاح عالية وخسارة ضئيلة وظروف آمنة إلى أقصى حد.
المدهش أن نتائج الدراسة أثبتت العكس تماما؛ انحاز معظم الرياديين إلى الخيار الثالث الآمن -ربح أقل لكن مضمون- بينما انحاز الأشخاص العاديون إلى الخيار الأول المغامر، ربح مرتفع للغاية ولكن نسبة خسارته عالية. الدراسة أوضحت أن فانتازيا المغامرة التي تُنسب دائما لروّاد الأعمال أنهم دائما مغامرون ويطمحون للفرص المميزة حتى في ظل احتمالات عالية من خسارتها هي تصورات غير حقيقية، وأن روّاد الأعمال يميلون إلى الأرباح المضمونة، بينما الأشخاص العاديون، وتحت تأثير بريق إباحية ريادة الأعمال يفترضون أن الصحيح هو الذهاب إلى المغامرات بأعلى أشكالها التي تُحقِّق أعلى مكسب ممكن، حتى لو كانت نسبة نجاحها ضئيلة، تحت تأثير الاندفاع المشوّش لفكرة “المغامرة” في عالم ريادة الأعمال.
في العام 2016، أصدر آدم غرانت البرفيسور في مجال الإدارة بكلية وارتون جامعة بنسلفانيا كتابا بعنوان “الأصليون” (Originals) يُسلِّط فيه الضوء على أبرز “الأساطير” التي يتم الترويج لها باعتبارها أساسيات في طريق النجاح، خصوصا في مجال الأعمال. واحدة من أهم هذه الأساطير التي هدمها غرانت في كتابه هي أسطورة التضحية بوضع حالي مستقر في سبيل بناء وضع أفضل مستقبلا غير مضمون النتائج، أو ما يعني في عالم ريادة الأعمال مفهوم “الاستقالة” من الوظيفة الحالية من أجل مطاردة الشغف وبناء شركة ناشئة عظيمة.
يقول غرانت إن التسويق لهذه الحالة في التسويق لإباحية ريادة الأعمال بترك الوظيفة وبدء شركة ناشئة حالة مزيّفة ومشوّشة بالكامل وتناقض تماما الكثير من النماذج التي يتم الترويج لها باعتبارهم مغامرين انتحاريين. مؤسس شركة مايكروسوفت العملاقة بيل غيتس الذي يُقال دائما إنه ترك الجامعة ليتفرغ لتأسيس شركته، في الواقع هو لم يتخذ هذا القرار إلا بعد عام كامل انتهى فيه من تطوير برمجياته، وتلقّى عروضا واضحة من مستثمرين بخصوص بدء تمويل شركته.
ستيف ووزنياك، الشريك المؤسس لشركة آبل العملاقة، استمر في العمل في وظيفته النظامية لمدة عام كامل في شركة “هيوليت باكارد” (HP) بعد اختراع جهاز حاسوب “آبل 1” الذي اعتُبِر ضربة البداية لشركة آبل، ثم قرر -بعد عام كامل من استمراره في وظيفته- أن يتفرّغ للعمل مع صديقه ستيف جوبز بعد توالي عروض التمويل والتأكد أن الشركة لها مستقبل واعد.
حتى لاري بيغ وسيرجي برين مؤسسا غوغل، بعد أن اكتشفا الطرق التي يمكنها تحسين أداء البحث على الإنترنت بشكل كبير، استمر كلاهما لمدة عامين في جامعة ستانفورد، قبل أن يُقرِّرا التخلي عن وظيفتهما في الجامعة وإطلاق شركة غوغل. عشرات الأمثلة التي تُعتَبر أيقونات ريادية شهيرة في هذا العالم، ويتم تقديمها طوال الوقت باعتبارهم المغامرين الذين تمردوا على حياتهم النمطية وبدأوا شركاتهم بشكل مغامر، كانوا في الواقع شديدي الحيطة قبل اتخاذ هذا القرار.
الأمر ليس قائما على مواقف فردية لروّاد الأعمال، بل تمّ دراسته بحثيا كذلك بواسطة باحثين في مجال الإدارة في جامعة ويسكونسين. الدراسة تم إجراؤها على 5 آلاف شخص أميركي تحوّل إلى مجال ريادة الأعمال وتأسيس الشركات الناشئة على مدار 12 عاما كاملا. الدراسة كشفت أن روّاد الأعمال الذين بدأوا في تأسيس شركاتهم الناشئة في الوقت الذي احتفظوا فيه بوظائفهم التقليدية، كانوا أقل عُرضة للفشل بنسبة 33% من الأشخاص الذين غامروا بالاستقالة من وظائفهم لبدء تأسيس شركاتهم الناشئة.
غيّر العالم.. وابدأ مبكرا
بمجرد الإشارة إلى عالم ريادة الأعمال، دائما يقفز اسم “مارك زوكربيرغ” مؤسس فيسبوك في الواجهة، ودائما القصة المكررة أنه بدأ في إطلاق شركته وهو ابن 19 عاما. ولا يختلف الأمر حول بيل غيتس مؤسس مايكروسوفت وستيف جوبز مؤسس آبل الذي بدأ تأسيس شركته في الحادية والعشرين من عمره. دائما اللعب على وتر ابدأ مشروعك الريادي مبكرا وكن استثنائيا في مراهقتك، لتحصل على المليارات وأنت صغير السن.
هذا الاتجاه -بدء مشروعك الريادي مبكرا- يحمل تشويشا كاملا للحقيقة. فعلى مدار سنوات، قامت العديد من المؤسسات المتخصصة في مجال ريادة الأعمال بعمل دراسات لمحاولة التوصل لمتوسط العمر الأفضل لبدء تأسيس شركة ناشئة، موقع “تيك كرنش” حدد عمر 31 عاما كأفضل عمر لإطلاق شركة ناشئة بناء على تحليل أعمار المؤسسين للشركات الناشئة التي حازت على جوائز تيك كرنش الريادية على مدار عشر سنوات كاملة. أما مجلة “Inc” الريادية، فقد حددت عمر الـ 29 متوسطا لأعمار المؤسسين الذين يُطلقون شركات سريعة النمو.
إلا أن الدراسة الأحدث والأكثر تخصصا أصدرتها مؤسسة “MIT” في صيف العام 2018 وجدت أن متوسط العمر الأفضل لتأسيس شركات ناشئة تحقق نسبة نجاح أعلى هو 45 عاما، أي إن العمر الأنسب للتحوّل إلى رائد أعمال وتأسيس شركة ناشئة بنسبة فشل أقل هو منتصف العمر وليس بداياته، باعتبار أنها مرحلة النضج الوظيفي والخبرات المتراكمة التي تجنّب صاحب المشروع السقوط في فخ الفشل أو الأحلام الوردية.
في النهاية، تأسيس شركة ناشئة ليس مهمة سهلة أو مجرّد بريق اجتماعي أو صور على إنستغرام أو ظهور إعلامي، بل هو عملية مُخاطرة حقيقية ليس فقط بالمال والجُهد، وإنما أيضا مخاطرة باتخاذ مسار شائك نتائجه غير مضمونة من كل جوانبها. الشيء الوحيد الذي يضمن البقاء في هذا العالم هو أن يقتحمه رائد الأعمال بناء على تصوّر حقيقي له وليس انجذابا وراء صورة مزيّفة لا علاقة لها بالحقيقة.
المقال للكاتب عماد أبو الفتوح نقلاً عن موقع ميدان
عندما بدأ البروفيسور “توماس شامورو بريموزيك” في تدريس درجة الماجستير في إدارة الأعمال (MBA) منذ أكثر من 15 عاما، كانت الملاحظة الأولى التي لاحظها أن معظم الطلاب الجالسين أمامه في قاعة المحاضرات هدفهم الأول من وراء نيل هذه الشهادة هو الالتحاق بوظيفة مرموقة في شركات كبرى مثل “IBM” و”Unilever” وغيرها من المؤسسات البرمجية والمصرفية والمالية العملاقة.
بمرور الوقت، وبعد الصعود الكبير لشركات غوغل وفيسبوك وأمازون في الساحة العالمية، لاحظ البروفيسور نفسه أن أهداف طلابه تتغيّر، فبدلا من أن يكون الهدف لمعظمهم مُتمثِّلا في الحصول على وظائف مرموقة في شركات كبرى، أصبح معظم طلابه يخبرونه أن هدفهم الأساسي هو تأسيس شركة ناشئة مبدعة، وأنهم يرون أنفسهم روّاد أعمال وليسوا موظفين تقليديين.
في العام 2017، أصدر البرفيسور شامورو كتاب “وهم الموهبة” (Talent Delusion) الذي ذكر في جوانبه أزمة الوهم الذي يقع فيه الكثيرون بخصوص مواهبهم وقدراتهم، من بينها الاندفاع الهائل من الجميع تجاه مجال ريادة الأعمال تحديدا، وما يتبعها من صدمة يتعرّض لها الأغلبية بعد تحقيق فشل مُريع.
“الغالبية أصبحوا الآن يخبرونك: أنا “فتى شركات ناشئة”، وسوف أُطلق شيئا ما جديدا، وسوف أكون الشيء الكبير التالي. أنا لديّ فكرة، ولا أحب فكرة أن يكون لديّ مدير في العمل، سوف أكون “إيلون ماسك” الجديد. حسنا، مَن نكون نحن كأساتذة حتى ندمّر نفسياتهم أو نسخر منهم؟ ولكن مسؤوليتنا هو أن نخبر هؤلاء الناس أن إمكانية تحقيق هذه الأحلام هي بالفعل منخفضة للغاية، وأنهم في سبيل الوصول إليها سيضحّون بأشياء عديدة، وأن الأمر لا يبدو بهذه السهولة”.
إباحية ريادة الأعمال!
المفهوم الأساسي الذي تدور حوله صناعة الإباحية (Pornography) ليس تقديم الجنس فقط، وإنما تقديم “فانتازيا الجنس”. تقوم صناعة الإباحية على تزييف الواقع عبر تقديم صور فانتازية تداعب الخيال وتُعلي مستويات الإثارة للمُتلقّي، اعتمادا على اندفاع داخلي يتوق للبحث عن مادة جنسية، فتكون النتيجة إشباعا مؤقتا لتلك الإثارة واختلاطها بمستويات عالية من الخيال والفانتازيا والتزييف على الشاشة، فيُصاب المُشاهد بالإدمان على متابعتها، وتهدِر آلات صناعتها بلا توقف بإيرادات هائلة بمليارات الدولارات.
في عالم ريادة الأعمال -خصوصا في السنوات الأخيرة- بدأ في الظهور مصطلح له مبادئ الاعتماد على الفانتازيا أكثر من الحقيقة، وهو مصطلح “إباحية ريادة الأعمال” (Entrepreneurship porn). الترويج الهائل والمستمر لفكرة أنك ستكون ستيف جوبز القادم، آلاف فيديوهات التحفيز التي تدفعك للتخلي عن وظيفتك وبدء مشروعك الخاص، تلميع هائل لحياة رائد الأعمال العصرية المليئة بطاولات الاجتماعات وأخبار التمويلات الكبرى والمباني الضخمة ورحلات رائد الأعمال حول العالم، وغيرها من التأثيرات التي تُشعل رغبة المُتلقّي في اقتحام هذا العالم دون تخطيط سابق.
هذه الحالة على الرغم من مميزاتها في إعطائها دفعة تحفيز كبيرة للمتأثّرين بها لا يمكن تجاهلها، فإنها في الوقت نفسه تلعب دورا مُطابقا للمفهوم الذي تقوم عليه صناعة الإباحية، وهو تقديم صورة مزيّفة فانتازية عن واقع عالم ريادة الأعمال، والتركيز على نماذج معينة تسوّق لمعاني التألق والإبداع والثراء والراحة، وتتجاهل جوانب مظلمة أو تمرّ عليها سريعا؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى التهلكة بالملايين من المسحورين بالدخول إلى هذا العالم.
بريق لقب “المؤسس” الذي يعمي العيون
في مقالتها “الصعود الخطير لإباحية ريادة الأعمال” (The Dangerous Rise of Entrepreneurship porn) التي نُشرت في مجلة هارفارد بيزنس ريفيو المتخصصة في الأعمال سنة 2014، استعرضت الريادية مورا آرونز ميلي رؤيتها لهذا المصطلح بناء على تجربتها الشخصية في التحول من وظيفتها النظامية إلى رائدة أعمال. وصفت “ميلي” حالة التسويق المحموم لريادة الأعمال والترويج لها بأنها “واقع مشوّش يسعى الكل فيه لإطلاق وإدارة عمل خاص لتحقيق أحلام شخصية للحياة والعمل”.
تقول مورا ميلي إن السعي وراء اسم “رائد أعمال” هو شيء أميركي للغاية نابع من عجلة دوران الحلم الأميركي في التحرر الظاهري من الوظيفة، والانغماس الكامل في مظاهر برّاقة تروّج أن “مؤسس” (Founder) شركة ناشئة متعثّرة قد يكون أفضل حالا من “موظف” في شركة ناجحة بالفعل. ويكون هذا الاندفاع في معظم الأوقات بتحفيز الرغبة في إنهاء العمل النظامي المعتاد أو ما يُطلق عليه وظيفة الـ 9 صباحا إلى الـ 5 مساء، والانغماس في طريقة حياة يبدو من ظاهرها الحرية الكاملة في حالة يغيب فيها المدير بمفهومه التقليدي ويحلّ محله الاندفاع والرغبة لبناء شيء جديد تحت إشراف “إدارة الذات” وليس إدارة الآخرين.
في الواقع، وبعد أن أطلقت شركتين رياديتين تُشير مورا -بناء على تجربتها- إلى أن ريادة الأعمال أبعد ما تكون عن مفهوم “الحرية” البرّاق الذي يظنّه الجميع، وأن إطلاق شركة ناشئة لا يعني التحرر من طاحونة الوظيفة، بل يعني في معظم أحواله توقّف التدفق النقدي الذي كنت تحصل عليه عادة، والدخول في دوامة واسعة من الضغوط المادية والاجتماعية من المؤكد أن الجميع غير قادر على اجتيازها بسهولة، خصوصا مع اختلاف الظروف والمتطلبات الحياتية بين شخص وآخر، وقدرة كل شخص على التحمّل، وأيضا مستوى خبراته وسرعة تأسيسه للمشروع وقوته.
الواقع الذي لا يخبرونك به!
تبيع “إباحية ريادة الأعمال” فكرة أن المغامرة في حد ذاتها متعة، المغامرة بترك الوظيفة النظامية المملة وتأسيس شركة جديدة والبدء في اقتحام عالم مجنون مليء بالأموال، ويتم الترويج لمفهوم “الفشل” فيه كجزء من الرحلة الممتعة. هذه الصورة البرّاقة تحفّز المتأثرين بها في اقتحام هذا العالم، متصوّرين أن روّاد الأعمال في الأصل مجموعة من المغامرين، وأن المغامرة جزء من المتعة التي تنتظر في نهايتها أموالا طائلة.
في دراسة مدهشة قامت بها جامعة ستانفورد العريقة بالتعاون مع جامعة برينستون، وتم إجراؤها على 60 ألف شخص في العام 2012، لقياس مستوى “الإقدام على المخاطرة” (Risk Tolerance). هذه الشريحة الكبيرة تمّ تقسيمها إلى مجموعتين، المجموعة الأولى تضم الأشخاص الذين بدأوا في تأسيس شركاتهم الناشئة في مقابل المجموعة الثانية التي تضم العوام (General Population) بكل فئاتهم من أطباء ومهندسين وعاملين وغيرهم. بمعنى آخر، قياس مستوى “المخاطرة” لدى الرياديين في مواجهة الأشخاص العاديين.
هنا، تم وضع ثلاثة خيارات أمام المجموعتين -الرياديّين والعاديين- من ناحية “الاستثمار المغامر” (Venture investments)، أي الاستثمار في فرص أو مشروعات أو شركات مع نسبة احتمال نجاحها:
الخيار الأول: أن تكسب 5 ملايين دولار، مقابل احتمالية نجاح قدرها 20% فقط (أي 80% احتمال الخسارة).
الخيار الثاني: أن تكسب مليونَيْ دولار، مقابل احتمالية نجاح قدرها 50% (أي إن احتمال النجاح يساوي احتمال الفشل)
الخيار الثالث: أن تكسب 1.2 مليون دولار، مقابل احتمال نجاح يصل إلى 80% (أي احتمال الخسارة 20% فقط).
التصوّر العام والبديهي الذي سيقفز في الأذهان قطعًا هو أن مجموعة الرياديين -بكل ما يُثار عن عالم ريادة الأعمال بأنه عالم مُغامر- سوف يميلون إلى الذهاب إلى الخيار الأول، أن تكسب 5 ملايين دولار مقابل احتمالية خسارة عالية، أي نموذج أعلى ربح ممكن حتى لو كان احتمال فشله عاليا للغاية. بينما سيميل الأشخاص العاديّون إلى الذهاب إلى الخيار الثالث الآمن، وهو مكسب 1.2 مليون دولار -أقل ربح- مقابل احتمالية نجاح عالية وخسارة ضئيلة وظروف آمنة إلى أقصى حد.
المدهش أن نتائج الدراسة أثبتت العكس تماما؛ انحاز معظم الرياديين إلى الخيار الثالث الآمن -ربح أقل لكن مضمون- بينما انحاز الأشخاص العاديون إلى الخيار الأول المغامر، ربح مرتفع للغاية ولكن نسبة خسارته عالية. الدراسة أوضحت أن فانتازيا المغامرة التي تُنسب دائما لروّاد الأعمال أنهم دائما مغامرون ويطمحون للفرص المميزة حتى في ظل احتمالات عالية من خسارتها هي تصورات غير حقيقية، وأن روّاد الأعمال يميلون إلى الأرباح المضمونة، بينما الأشخاص العاديون، وتحت تأثير بريق إباحية ريادة الأعمال يفترضون أن الصحيح هو الذهاب إلى المغامرات بأعلى أشكالها التي تُحقِّق أعلى مكسب ممكن، حتى لو كانت نسبة نجاحها ضئيلة، تحت تأثير الاندفاع المشوّش لفكرة “المغامرة” في عالم ريادة الأعمال.
في العام 2016، أصدر آدم غرانت البرفيسور في مجال الإدارة بكلية وارتون جامعة بنسلفانيا كتابا بعنوان “الأصليون” (Originals) يُسلِّط فيه الضوء على أبرز “الأساطير” التي يتم الترويج لها باعتبارها أساسيات في طريق النجاح، خصوصا في مجال الأعمال. واحدة من أهم هذه الأساطير التي هدمها غرانت في كتابه هي أسطورة التضحية بوضع حالي مستقر في سبيل بناء وضع أفضل مستقبلا غير مضمون النتائج، أو ما يعني في عالم ريادة الأعمال مفهوم “الاستقالة” من الوظيفة الحالية من أجل مطاردة الشغف وبناء شركة ناشئة عظيمة.
يقول غرانت إن التسويق لهذه الحالة في التسويق لإباحية ريادة الأعمال بترك الوظيفة وبدء شركة ناشئة حالة مزيّفة ومشوّشة بالكامل وتناقض تماما الكثير من النماذج التي يتم الترويج لها باعتبارهم مغامرين انتحاريين. مؤسس شركة مايكروسوفت العملاقة بيل غيتس الذي يُقال دائما إنه ترك الجامعة ليتفرغ لتأسيس شركته، في الواقع هو لم يتخذ هذا القرار إلا بعد عام كامل انتهى فيه من تطوير برمجياته، وتلقّى عروضا واضحة من مستثمرين بخصوص بدء تمويل شركته.
ستيف ووزنياك، الشريك المؤسس لشركة آبل العملاقة، استمر في العمل في وظيفته النظامية لمدة عام كامل في شركة “هيوليت باكارد” (HP) بعد اختراع جهاز حاسوب “آبل 1” الذي اعتُبِر ضربة البداية لشركة آبل، ثم قرر -بعد عام كامل من استمراره في وظيفته- أن يتفرّغ للعمل مع صديقه ستيف جوبز بعد توالي عروض التمويل والتأكد أن الشركة لها مستقبل واعد.
حتى لاري بيغ وسيرجي برين مؤسسا غوغل، بعد أن اكتشفا الطرق التي يمكنها تحسين أداء البحث على الإنترنت بشكل كبير، استمر كلاهما لمدة عامين في جامعة ستانفورد، قبل أن يُقرِّرا التخلي عن وظيفتهما في الجامعة وإطلاق شركة غوغل. عشرات الأمثلة التي تُعتَبر أيقونات ريادية شهيرة في هذا العالم، ويتم تقديمها طوال الوقت باعتبارهم المغامرين الذين تمردوا على حياتهم النمطية وبدأوا شركاتهم بشكل مغامر، كانوا في الواقع شديدي الحيطة قبل اتخاذ هذا القرار.
الأمر ليس قائما على مواقف فردية لروّاد الأعمال، بل تمّ دراسته بحثيا كذلك بواسطة باحثين في مجال الإدارة في جامعة ويسكونسين. الدراسة تم إجراؤها على 5 آلاف شخص أميركي تحوّل إلى مجال ريادة الأعمال وتأسيس الشركات الناشئة على مدار 12 عاما كاملا. الدراسة كشفت أن روّاد الأعمال الذين بدأوا في تأسيس شركاتهم الناشئة في الوقت الذي احتفظوا فيه بوظائفهم التقليدية، كانوا أقل عُرضة للفشل بنسبة 33% من الأشخاص الذين غامروا بالاستقالة من وظائفهم لبدء تأسيس شركاتهم الناشئة.
غيّر العالم.. وابدأ مبكرا
بمجرد الإشارة إلى عالم ريادة الأعمال، دائما يقفز اسم “مارك زوكربيرغ” مؤسس فيسبوك في الواجهة، ودائما القصة المكررة أنه بدأ في إطلاق شركته وهو ابن 19 عاما. ولا يختلف الأمر حول بيل غيتس مؤسس مايكروسوفت وستيف جوبز مؤسس آبل الذي بدأ تأسيس شركته في الحادية والعشرين من عمره. دائما اللعب على وتر ابدأ مشروعك الريادي مبكرا وكن استثنائيا في مراهقتك، لتحصل على المليارات وأنت صغير السن.
هذا الاتجاه -بدء مشروعك الريادي مبكرا- يحمل تشويشا كاملا للحقيقة. فعلى مدار سنوات، قامت العديد من المؤسسات المتخصصة في مجال ريادة الأعمال بعمل دراسات لمحاولة التوصل لمتوسط العمر الأفضل لبدء تأسيس شركة ناشئة، موقع “تيك كرنش” حدد عمر 31 عاما كأفضل عمر لإطلاق شركة ناشئة بناء على تحليل أعمار المؤسسين للشركات الناشئة التي حازت على جوائز تيك كرنش الريادية على مدار عشر سنوات كاملة. أما مجلة “Inc” الريادية، فقد حددت عمر الـ 29 متوسطا لأعمار المؤسسين الذين يُطلقون شركات سريعة النمو.
إلا أن الدراسة الأحدث والأكثر تخصصا أصدرتها مؤسسة “MIT” في صيف العام 2018 وجدت أن متوسط العمر الأفضل لتأسيس شركات ناشئة تحقق نسبة نجاح أعلى هو 45 عاما، أي إن العمر الأنسب للتحوّل إلى رائد أعمال وتأسيس شركة ناشئة بنسبة فشل أقل هو منتصف العمر وليس بداياته، باعتبار أنها مرحلة النضج الوظيفي والخبرات المتراكمة التي تجنّب صاحب المشروع السقوط في فخ الفشل أو الأحلام الوردية.
في النهاية، تأسيس شركة ناشئة ليس مهمة سهلة أو مجرّد بريق اجتماعي أو صور على إنستغرام أو ظهور إعلامي، بل هو عملية مُخاطرة حقيقية ليس فقط بالمال والجُهد، وإنما أيضا مخاطرة باتخاذ مسار شائك نتائجه غير مضمونة من كل جوانبها. الشيء الوحيد الذي يضمن البقاء في هذا العالم هو أن يقتحمه رائد الأعمال بناء على تصوّر حقيقي له وليس انجذابا وراء صورة مزيّفة لا علاقة لها بالحقيقة.
المقال للكاتب عماد أبو الفتوح نقلاً عن موقع ميدان