ليس مجازفة كبرى القول إنّ الحياة اليوميّة للبشر حاضراً صارت متمازجة تماماً مع الواقع الافتراضي وشبكات المعلوماتيّة المُعَوْلَمَة. إذ صار التحدي الرقمي جزءاً من الأعمال اليوميّة للناس على امتداد الكرة الأرضيّة. وضمن تلك المشهديّة، يبرز من يعمل بدأب على ابتكار طرق لحماية وجوده على الشبكة العنكبوتيّة، فيما ينهمك آخرون في أعمال هدفها إزالة الأمن من الفضاء الافتراضي للإنترنت، وتحويل تلك الشبكة الى حقل ألغام مفخّخ. وفي مسار ضرب الأمن الشبكي، تأتي الهجمات الإلكترونيّة وعمليات اختراق المواقع والاستيلاء على البيانات والمعلومات، واستغلال مواقع التواصل الاجتماعي لنشر الأخبار الكاذبة، وترويع الجمهور الإلكتروني بواسطة الفيروسات الرقميّة التي تمحي البيانات والملفات من حواسيبهم أو تحولها رهائن يتوجب دفع فدية لتحريرها وغيرها،وفقا لموقع الحياة. ثمة من يرى أن العالم بصدد توديع شكل الحياة التي عرفها وكياناتها ودولها ومعطياتها، لمصلحة استبدال عالم افتراضي- معلوماتي بها تكون الهمينة فيه للذكاء الاصطناعي، وتؤول السيطرة فيه إلى أجهزة «استخباراتيّة» غير تقليديّة بمعنى أنها لا تتبع دولاً وكيانات جغرافيّة- سياسيّة معروفة، بل تستند إلى كيانات افتراضيّة محضة. حتى أول الأمس القريب، كانت الشبكة العنكبوتيّة وتكنولوجيا المعلومات وتقنيّات الحاسوب وغيرها من المفاهيم المرتبطة بها، تشكّل عالماً منسجماً يملك صورة مغرقة في الثراء والإيجابيّة، بل مغلّفة في أُطُرٍ من المثاليّة الزاهية. واليوم، يبدو أنّ تلك الصورة الورديّة أصبحت في خبر كان. وما كان راسخاً قبل شهور قريبة، تبدّد وصار أثراً بعد عين! وحاضراً، تحيط بنا حوادث تشير إلى أن دولاً ومؤسّسات تصارع الزمن من أجل إيجاد أفكار غير تقليديّة لإدارة العالم السيبراني Cyber World، فيما تصارع دول ومؤسّسات أخرى قوى «افتراضيّة» تحاول الإجهاز عليها.
جيش بريطاني مُسْتَنْفَر
في سياق هذا الصراع، تعلن وزارة الدفاع البريطانيّة برنامجاً لتجنيد ألفي جندي كي يكونوا نواة القوة السيبرانيّة المدافعة عن المصالح البريطانيّة على الشبكة العنكبوتيّة. ويقدر لتلك القوّة أن تصل إلى 60 ألف جندي عام 2024. وتأتي الخطوة البريطانيّة ضمن خطوات وإجراءات مشابهة في دول عدّة، هدفها درء أخطار الهجمات العنكبوتيّة. وفي الوقت ذاته، تغطي وسائل إعلام روسيّة أخبار التحركات الدوليّة والتنديدات الغربيّة والتصريحات الملوّحة بالتهديد والوعيد ضد روسيا. وجاءت تلك الخطوات الغربيّة كرد على هجمات عنكبوتيّة وصل بعضها درجة التدخّل في نتائج انتخابات رئاسيّة واستفتاءات مصيريّة وغيرها. والمفارقة أنّ وسائل الاعلام الروسيّة تتناول تلك الأشياء عبر تغطية «موضوعيّة» كأن روسيا ليست الاسم الأكثر تداولاً باعتبارها صاحبة الهجمات الأعتى والأكبر على الإنترنت على مدار العامين الماضيين، بل بلغت أقصاها في الشهور الأخيرة. وفي الفترة الزمنيّة ذاتها، شهد الإنترنت تهديدات عنكبوتيّة غير مسبوقة. وتمثّل أحد التعبيرات عن استشعار تلك التهديدات، في تكريسها موضوعاً للمؤتمر السنوي لـ «مركز الرصد والبحوث» Observer Research Foundation، أحد أكبر «خزانات الفكر» في الهند، وهي إحدى القوى الكبرى حاضراً في ثورة المعلوماتيّة والاتّصالات المتطوّرة. وناقش المؤتمر الذي انعقد في نيودلهي تحت عنوان «التكنولوجيا والأمن والمجتمع» سبل إنقاذ الشبكة العنكبوتيّة من الخطوات التي تفكر أنظمة عدة حول العالم في اتخاذها لحماية أمنها، لأن من شأنها أن تقتل الإنترنت. وفي المؤتمر، لفت رئيس المركز المهندس سمير ساران إلى أن «الخطر يتفاقم [على الإنترنت] لأن التقنيّات تمارس ضغوطاً هائلة على قدراتنا في إدارتها والتعامل مع آثارها السياسيّة والاجتماعيّة… إذ قفز الذكاء الاصطناعي إلى خارج الشاشات الذكيّة، وأصبح عاملاً رئيساً يتحكّم في الكثير من تفاصيل حياتنا اليوميّة. جرى الانتقال من «إنترنت الأشياء» إلى «إنترنت الأشخاص». وكل ما يجري حولنا يطرح سؤالا مهماً هو: هل التكنولوجيا بحد ذاتها تحمل الإجابة على مشكلاتنا أم أن الإجابة تكمن في سبل تعاملنا مع التكنولوجيا»؟
نهاية آفاق التفاؤل
في أروقة المؤتمر الهندي، تردّدت أحاديث عن ان التقنيّات الرقمية كانت تمثّل حتى الأمس القريب، الأمل للمهمشين والنبراس للمقموعين وطوق النجاة للمتشوقين إلى العيش والحرية والعدالة الاجتماعيّة. وحاضراً، صارت التقنيّات قوّة هادرة تستدعي ردوداً رادعة وتستعدي الدول على بعضها البعض، وتستوجب البحث والتحليل في قضايا عدّة تبدأ بوضع الاقتصاد وحال السياسة وتمر بالراديكاليّة العنكبوتيّة والصراع المسلح السيبراني، ولا تنتهي عند بحث مخاوف حول صراع التكنولوجيا مع البشر في معركة حياة أو موت! وكذلك دارت نقاشات حول تبدّد الآمال عن أفكار الألفية الجديدة القائلة بعالم بلا حدود تنتعش فيه الديموقراطيات وتزدهر، وتتقلص أدوار الحكومات، ويؤول تقاسم السلطات فيه بين الأطراف الفاعلين إلى تهاوي القمع. ولوحِظ أيضاً أن الشهور الأخيرة اكتظّت بظهور قوانين عدة غرضها الحماية الإلكترونيّة، وتضمّنت غالبيتها تشدّداً في الرقابة على الشبكة. وتحدّثت منصّات مؤتمر «التكنولوجيا والأمن والمجتمع» عن ضرورة حماية الحقوق الرقميّة للبشر، وأهمية عدم التذرّع بالأمن والسلامة لتبرير فرض مزيد من القيود العنكبوتيّة. وفي المقابل، تهامس الحضور بأحاديث محملة بالقلق تشير إلى أن العالم كان مكاناً أفضل قبل الانتشار غير المسبوق للحريات العنكبوتيّة وتشبع الكوكب بكميات هائلة من البيانات والمعلومات والملفات! وأوردت إحدى المشاركات من الكاميرون أن الأمر «لم يعد مجرد انتقاد لعصر تقنية المعلومات الذي أدى إلى اغتراب أفراد الأسرة الذين يعيشون تحت سقف واحد، فيما كل منهم متصل بشاشة تنقله إلى عالم افتراضي خاص به… بل بات الأمر يتعلق بخطر داهم قوامه القدرة على إلحاق الضرر بالآخرين، وتهديد أمنهم، والتدخّل في أنظمتهم المعيشيّة والاقتصاديّة والسياسيّة». إذاً، «هل يقبع الشيطان في البيانات؟»، على غرار القول الشهير بأنه يكمن في التفاصيل؟ جرى تخصيص إحدى جلسات المؤتمر لتعريف المساحة الفارقة بين تأمين الأفراد على الشبكة وحماية أمن الدول من جهة، وبين حق الأفراد في تداول المعلومات وحماية بياناتهم من جهة أخرى. وفي ذلك السياق، جرى التطرّق إلى مسألة الثقة. كيف لبليون متعامل على الشبكة يعتمدون عليها في معاملاتهم الاقتصاديّة، أن يثقوا بتقنياتها مع ما تحمله من بيانات شخصيّة، ومن دون وجود قواعد محددة وواضحة تحميها، حتى لو تضمّن الأمر وضع قيود سياسيّة على المستخدمين؟
نقاش عن الخير والشر و «ذكاء الآلات»
في سياق النقاشات التي شهدها مؤتمر «التكنولوجيا والأمن والمجتمع»، تبيّن أن جمهور الإنترنت وحقوقه السياسيّة والاقتصاديّة، ستقع هذا العام بين حجري طاحون هائل. فمن جهة، تحاول أنظمة اقتناص فرصة الهجمات العنكبوتيّة والأخطار على الشبكة لاستعادة ما خسرته من هيمنة وسيطرة، وهي ترفع لواء حماية الأمن القومي. ومن جهة أخرى، قفزت على الشبكة العنكبوتيّة قوى الإرهاب والراديكاليّة التي وجدت في مواقع التواصل الاجتماعي أرضاً ثريّة لاستقطاب الشباب ونشر ثقافة الكراهية وسفك الدماء. ولعلها من المرات القليلة التي سُلّطت فيها أضواء كاشفة على قدرة الشبكة في أن تتحول «سلاحاً فتاكاً». يظهر ذلك عبر لجوء دول إلى شنّ هجمات عنكبوتيّة على دول أخرى، والتدخّل في سير انتخابات واستفتاءات فيها. وعبر الإنترنت يكون ممكناً التهديد بتعطيل مصالح ملايين المواطنين وقطع الكهرباء وإشاعة الفوضى، إضافة إلى نشر الراديكاليّة الرقميّة كي تصبح سلاحاً شديد الفتك على الأرض. باختصار، في مؤتمر نيودلهي بدا واضحاً أن للشبكة وجوهاً شديدة القبح. هل هناك ما هو أشد قبحاً من استخدام الشبكة لتكون منصة لتوظيف من لديه استعداد للتحوّل إرهابياً أو مشروعاً متطرفاً؟ وعلى رغم حديث المنصة عن حتميّة اللجوء إلى نشاطات توعويّة وجهود عالميّة للفت الانتباه إلى خطورة نشر قيم الكراهية والعنف على الشبكة، إلا أن الوقائع على الإنترنت ربما تكون أكثر تعقيداً.
سؤال عن الروبوت
عبّر تعقيد الوقائع الرقميّة في ثورة المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة، عن نفسه في جلسات طرحت سؤالاً حول تحديد منبع الشر: أهو في التكنولوجيا أو في مستخدمها؟ وأغلب الظن أن المستخدم يقدر على تحويل التكنولوجيا سلاحاً قاتلاً أو أداةً لتحقيق منفعة. في المقابل، يكون الفصل بينهما وتحديد هوية الشرير والطيّب، أمراً بالغ الصعوبة، إذ تنظر أنظمة ديكتاتورية إلى الشبكة باعتبارها مصدر تهديد للأمن والسلم وإشاعة الفوضى والبلبلة، وهو أمر يجد تبريره في ظهور أفراد يتخذون من الشبكة وسيلة لتحقيق أهداف مسمومة، ما يحشر تكنولوجيا المعلومات والشبكة العكبوتية ذاتها في خانة ضيّقة. كذلك سادت شكوك قويّة عن مستقبل البشر في ظل الذكاء الاصطناعي، والتحدي الذي يطرحه حتى في شأن هوية الإنسان، والخط الذي لن يكون فاصلاً بالضرورة بين ذكاء البشر وذكاء الآلة. وبعد قرون من النضال من أجل نيل حقوق متساوية للبشر، وتمكين النساء، ونشر قيم العدالة الاجتماعية وغيرها، هل يمكن أن يكون كل ما تحقق في مهب الريح إذا تسلمت قيادة الكوكب الأزرق كيانات رقميّة لها أولويات مختلفة! ماذا يحدث حين نستعين بالآلات في فعاليات ونشاطات متّصلة بالمشاعر الإنسانية كالجنس الذي صار البعض يمارسه رقميّاً، أو حتى مسألة التعامل بعنف أو بمحبة زائدة مع الروبوتات؟ ما الذي تقوله تلك التعاملات؟ ما هي القواعد التي يتوجّب إرساؤها في التعامل بين البشر والآلات؟