بين حتمية التحول الرقمي وواقعية السياسة الضريبية
في ظل التحولات العالمية السريعة التي يشهدها الاقتصاد الرقمي، تسعى الحكومات إلى إيجاد آليات أكثر مرونة لدعم الأنشطة التكنولوجية المستحدثة، باعتبارها رافعة أساسية للنمو المستقبلي.
مصر لم تكن بعيدة عن هذا التوجه، إذ أطلقت وزارة المالية في فبراير 2025 الحزمة الأولى من التسهيلات الضريبية، في خطوة وُصفت بأنها نقطة تحول في العلاقة بين الدولة والمجتمع الضريبي، لاسيما مع ما تضمنته من إجراءات مشجعة على إدماج الأنشطة الرقمية الجديدة داخل الاقتصاد الرسمي.
ومع انعقاد قمة الدوحة للطاقة 2025، يتجدد النقاش حول العلاقة بين السياسة الضريبية والقدرة على تحفيز الابتكار، وهل تمثل هذه الحوافز نقطة انطلاق حقيقية لدعم الشركات التكنولوجية المصرية، أم أنها تحتاج إلى مزيد من التعمق والتطوير لمواكبة ديناميكيات الأسواق العالمية؟
ملامح حزمة فبراير 2025
أعلن الدكتور عيسى مصطفى، الأمين العام لاتحاد خبراء الضرائب العرب، أن الحزمة الأولى نجحت في تسوية العديد من المنازعات الضريبية المتراكمة، وهو ما انعكس على تحسين بيئة الاستثمار بشكل عام. الحزمة شملت بنودًا مصممة لاستيعاب خصوصية الأنشطة الرقمية وتخفيف الأعباء الإدارية والمالية عنها.
أبرز البنود
- نظام ضريبي مبسط للشركات التكنولوجية بنسب تتراوح بين 0.4% إلى 1.5% حسب حجم الإيرادات.
- إعفاء من الفحص الضريبي لمدة خمس سنوات من تاريخ الانضمام إلى النظام، ما يتيح للشركات فرصة للتوسع دون أعباء رقابية معقدة.
- تخفيف الأعباء الإدارية عبر الاكتفاء بتقديم إقرارات ربع سنوية بدلًا من شهرية.
- حزمة إعفاءات واسعة تشمل إعفاء من ضريبة الدمغة ورسوم التوثيق لعقود تأسيس الشركات التكنولوجية، وإعفاء الأرباح الرأسمالية وتوزيعات الأرباح الناتجة عن الأنشطة التكنولوجية.
أثر مباشر على الثقة والاندماج
الحزمة لم تكن مجرد نصوص قانونية، بل مثلت آلية عملية لإنهاء خلافات ضريبية متراكمة. فقد ساعدت في إلغاء تراكمات وغرامات كبيرة على الممولين، ما شجع العديد منهم على تقديم إقراراتهم سواء المعدلة أو الأصلية.
أحد أبرز المؤشرات الكاشفة كان إدماج 401 ألف ممول جديد في المنظومة الضريبية، كثير منهم من منصات التجارة الإلكترونية وصنّاع المحتوى، وهو ما يعكس التحول التدريجي من اقتصاد غير رسمي إلى اقتصاد منظم.
الأنشطة التكنولوجية في قلب الإصلاح الضريبي
لم تعد الأنشطة الرقمية مجرد قطاع هامشي، بل أصبحت أحد محركات النمو الأساسية. ولذلك، صممت التسهيلات الضريبية لتستجيب لمتطلبات هذا القطاع عبر إجراءات تقنية وتنظيمية تشجع على الدمج والشفافية.
مقومات التكامل التقني والتنظيمي
- تكامل الأنظمة التقنية: إطلاق واجهات برمجة التطبيقات (API) للتكامل مع أنظمة تخطيط الموارد (ERP) الخاصة بالشركات.
- توسيع نطاق الفاتورة الإلكترونية والإيصال الإلكتروني: بما يضمن توثيق المعاملات الرقمية بشكل مباشر وشفاف.
- دمج الاقتصاد الرقمي غير الرسمي من خلال تطبيق مبدأ “عفا الله عما سلف” لتشجيع الأنشطة غير المسجلة على الانضمام للمنظومة الرسمية دون خوف من الملاحقات السابقة.
قراءة في المؤشرات
بالرغم من منح إعفاءات، لم تتراجع الإيرادات الضريبية، بل شهدت تحسنًا نتيجة زيادة قاعدة الممولين، إذ أن دخول مئات الآلاف من الأنشطة الجديدة ضمن المنظومة ساهم في تعويض الإعفاءات. هذه الفرضية مدعومة بتقارير رسمية وردت في تصريحات مسؤولي المالية ومصلحة الضرائب أن توسع الشريحة الممكَّنة ضريبيًا سيؤدي إلى تحسن مستدام في الإيرادات على المدى المتوسط.
على مستوى الإيرادات
توسيع قاعدة الممولين أدى إلى استقرار المصادر الضريبية وتعزيزها، إذ أن دمج الاقتصاد غير الرسمي يحد من التسرب الضريبي ويزيد من الشفافية في التعاملات التجارية الرقمية.
على مستوى الاستثمار
الإعفاء من ضريبة الدمغة ورسوم التوثيق للأعمال التكنولوجية أزال عقبة إدارية ومالية أمام الشركات الناشئة، ما شجع على تأسيس كيانات جديدة وضخ استثمارات إضافية في قطاع التكنولوجيا المحلية.
على مستوى الابتكار
إعفاء الأرباح الرأسمالية وتوزيعات الأرباح فتح الباب أمام المستثمرين المخاطرين وصناديق رأس المال الجريء، بما يعزز بيئة ريادة الأعمال الرقمية ويحفز على نمو الشركات القابلة للتوسع.
من الواقع التقني إلى الإطار القانوني
رغم الزخم الإيجابي، يظل المشهد محفوفًا بتحديات جمة تتعلق بالبنية التحتية والقدرات الفنية ومواكبة التشريعات للتطور التكنولوجي السريع.
- البنية التحتية التكنولوجية: تطبيق نظم رقمية ضريبية متقدمة يتطلب بنية تحتية قوية وربطًا فعالًا بين الشركات ومصلحة الضرائب.
- الفجوة التقنية: ليس كل الممولين يمتلكون الخبرة التقنية للتعامل مع الفواتير الإلكترونية والأنظمة الجديدة، مما يستلزم برامج تدريبية ومساندة فنية.
- الإطار القانوني: ضرورة تطوير تشريعات موازية تعالج المستجدات التكنولوجية مثل الذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية وحماية البيانات.
نافذة نحو اقتصاد رقمي متكامل
رغم التحديات، فإن التسهيلات توفر فرصًا واسعة لتسريع التحول الرقمي في مصر:
- توسيع قاعدة الاستثمار التكنولوجي بفضل الحوافز الضريبية التي تقلل من كلفة المخاطرة.
- جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة من خلال وضوح النظام الضريبي وثباته النسبي.
- تسريع دمج الاقتصاد غير الرسمي، ما يعزز الاستقرار المالي والشفافية.
موقع مصر في المشهد الإقليمي
تزامن إطلاق الحزمة مع قمة الدوحة للطاقة 2025 يضع مصر في قلب النقاش حول ربط السياسات الاقتصادية بالتحولات العالمية. ففي الوقت الذي تسعى فيه دول المنطقة إلى توظيف عوائد الطاقة لدعم التحول الرقمي، تقدم مصر نموذجًا قائمًا على التسهيلات الضريبية كأداة مباشرة لجذب النشاطات التكنولوجية وتوسيع القاعدة الإنتاجية.
نحو سياسة ضريبية رقمية شاملة
لا يمكن النظر إلى الحزمة الحالية كنهاية المطاف، بل كبداية لمسار طويل يتطلب إجراءات مكملة، ومنها:
- تطوير منصات تدريبية للممولين على استخدام الأنظمة الرقمية.
- توسيع نطاق الفاتورة الإلكترونية لتشمل كل المعاملات التجارية الرقمية.
- إطلاق حزم لاحقة تعالج تحديات ضريبية جديدة مثل الاقتصاد التشاركي والخدمات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي.
بين التفاؤل والانتظار
تمثل التسهيلات الضريبية لعام 2025 فرصة لإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والقطاع التكنولوجي، ولتعزيز الابتكار والنمو في مصر. ومع ذلك، فإن النجاح الحقيقي يتوقف على قدرة الحكومة على تطوير البنية التحتية الرقمية، وتوسيع نطاق التشريعات، وتحقيق التوازن بين الحوافز والرقابة.
يبقى السؤال مفتوحًا: هل ستتمكن مصر من الحفاظ على هذا الزخم وجذب المزيد من الأنشطة التكنولوجية إلى مظلة الاقتصاد الرسمي، أم أن التحديات التقنية والقانونية قد تفرض وتيرة أبطأ مما نطمح إليه؟













